كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما سقتم من حديث عائشة لا ينفعكم، فليس فيه إلا أنّ نكاح الواهبة كان بغير عوض، وعائشة إنما فهمت ذلك من لفظ الهبة.
ونحن نقول: إنّ الخصوصية كانت في عقد النكاح بلفظ الهبة ومعناه، أما عقده بلفظ الهبة وحده دون المعنى فلا نقول: إنّ الخصوصية راجعة إليه.
وأما ما قلتم من أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عقد النكاح بلفظ التمليك، فهو بعد تسليم حجية الحديث المروي فيه لا يدلّ على ما ذهبتم إليه.
وهناك رواية أخرى تدل على أن العقد كان بلفظ: زوجتكها ولا دلالة فيما رويتم، فعقد النكاح بلفظ التمليك لا يفيد أن كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح، ألا ترون أن لفظ الإجارة يدل على التمليك، وأنتم لا ترون النكاح ينعقد به، لما فيه من معنى يتنافى مع المقصود من النكاح، وهو أن الإجارة مبينة على التوقيت.
وكذلك نحن نقول بعد أن نسلّم لكم أنّ صيغ العقود يصحّ القياس فيها: إنّ لفظ الهبة نصّ على ترك العوض، والنكاح لابد فيه من العوض، وإن لم يذكر في العقد، فلا يصح أن يدل عليه بلفظ صريح في ترك العوض.
هذا ما رأينا أن نذكره مما تكلم فيه المفسرون من الأحكام، وهناك أشياء أخرى عرض لها المفسرون: كالكلام على أعمام النبي، وعمّاته، وأخواله، وخالاته ومن وهبت نفسها من النساء، وما نرى أن نتابعهم فيه، لأنّ ذلك حتى بعد صحة ما يروى لا فائدة من ذكره هاهنا.
قال اللّه تعالى: {تُرْجي مَنْ تَشاءُ منْهُنَّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَن ابْتَغَيْتَ ممَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في قُلُوبكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَليمًا (51)} الإرجاء: التأخير والتنحية والإيواء: الضم والتقريب والابتغاء: الطلب والعزل: الإبعاد.
اختلف في سبب نزول هذه الآية، فروى أبو رزين العقيلي أنّ نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا أشفقن أن يطلقهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلن: يا رسول اللّه! اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت فكانت منهن: سودة بنت زمعة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة غير مقسوم لهنّ.
وكان ممن آوى: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة: يضمهن ويقسم لهن.
وقيل كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن الرجل أن يخطبها حتى يتزوجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أو يتركها.
ويكون المعنى على ما روى أبو رزين: اعزل من شئت من القسم، وضمّ إليك من تشاء.
ويرى ابن العربي أنّ القولين غير صحيحين، أما ما روي عن أبي رزين فلم يرد من طريق صحيح.
وأما الآخر، فلأنّ امتناع الخطبة بعد خطبة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لا ذكر له، ولا إشعار به، وهو مع كونه غير خاص بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يكاد يتسق مع باقي الآية.
وقد اختلف العلماء في المراد من الإرجاء والإيواء:
فقد روي عن ابن عباس أنّ معنى الآية: تطلّق من تشاء، وتمسك من تشاء.
وروي عن قتادة: أنّ المعنى: تترك من تشاء، وتنكح من تشاء، وقد أسلفنا لك. عن أبي رزين ما يفيد أن المعنى: تترك من تشاء من غير قسم، وتقسم لمن تشاء.
ويرى ابن العربي أنّ الصحيح في سبب نزول الآية وفي معناها هو ما روي من طريق صحيحة عن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل اللّه تُرْجي مَنْ تَشاءُ منْهُنَّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وثبت في الصحيح أيضا عنها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يستأذن في يوم المرأة منّا بعد أن نزلت هذه الآية: تُرْجي مَنْ تَشاءُ منْهُنَّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَن ابْتَغَيْتَ ممَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فقيل لها: فما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول: إن كان الأمر إليّ فإني لا أريد يا رسول اللّه أن أوثر عليك أحدا أبدا.
ويرى ابن العربي أنّ المعنى بعد ذلك هو: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد أذن له في غير إلزام أن يكون مردّ الأمر في القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم، لكنّه كان يقسم بينهن من غير أن يكون القسم فرضا عليه.
وذلك خاصّ به دون المؤمنين. وقد ظلّ شأن النبي مع نسائه وشأن نسائه معه على هذا، حتى أدرك الكبر سودة بنت زمعة، فوهبت قسمها لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
ولنرجع بعد ذلك إلى تفسير الآية بتمامها، حتّى يتبين من التفسير أيّ المعاني أجدر بأن يكون مقصودا من الآية.
تُرْجي مَنْ تَشاءُ منْهُنَّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قد عرفت مما سقناه لك آنفا أنّ الإرجاء التأخير، وأن الإيواء الضم، وعرفت آراء العلماء في المراد بذلك.
ونزيد هنا أنهم اختلفوا أيضا في مرجع الضمير في {منهن} فرآى بعضهم أنه يرجع إلى نساء الأمة جميعا، وأنّ المعنى أن لك أن تترك نكاح من تشاء من نساء الأمة، وأن تنكح من تشاء.
وهذا القول بعينه قدمناه لك في جملة الأقوال.
ونقول: إنه لم يفد فائدة جديدة، فالمقصود منه قد استفيد من آية إنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قول اللّه تعالى: {خالصَةً لَكَ منْ دُون الْمُؤْمنينَ} على ما تقدم بيانه، وهو بعد ذلك لا يتسق مع قول اللّه تعالى: {وَمَن ابْتَغَيْتَ ممَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ}.
ويرى البعض أنّ الضمير للواهبات، ويكون المعنى إنّ لك أن تقبل هبة من تشاء، وتترك هبة من تشاء، ويروون في ذلك من الروايات ما يستندون إليه، إذ يفيد أنّ بعض الواهبات قبلهنّ الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ودخل بهن، وأرجأ البعض الآخر، ولم يدخل بهن، ويقولون: إنّ منهن أمّ شريك.
وأنت تعلم مما سبق أن العلماء اختلفوا في وقوع الهبة، وعلمت أنّ الصحيح أنّها وقعت، وعلمت كذلك أنهم اختلفوا في قبوله صلّى اللّه عليه وسلّم الهبة منهن، وأن الصحيح أنه لم يكن تحته امرأة وهبت نفسها، ومتى علمت هذا كان لك أن تحكم بضعف هذا القول، خصوصا إذا نظرت إلى أن ضمير {منهن} للجمع، ولم يرد للواهبات ذكر بالجمع حتى يكون مرجعا، فخير أن يكون مرجع الضمير لنسائه اللاتي هنّ تحته: وأنّ المراد ترك أمر القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم توسعة عليه، حتى تطمئن نفوس زوجاته، على ما يأتي بيانه.
{وَمَن ابْتَغَيْتَ ممَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} أي أنّه لا حرج ولا إثم إذا عنّ لك أن تطلب إحدى المرجئات والمعزولات، فتضمها، وتؤويها إليك بعد عزلها وإرجائها، ويجوز حمل الإرجاء والعزل هنا على الطلاق، ويكون المعنى: ومن طلبت رجوعها ممن تكون قد عزلت فلا جناح عليك في طلب رجوعها إلى العصمة.
ويجوز أن يراد منه التأخير في القسم، أو ترك القسم، ويكون المعنى: ومن طلبت إيواءها وإدخالها في القسم ممن أخرت القسم لها أو تركته، فلا جناح عليك.
وأما أن يراد بالابتغاء طلب النكاح، وبالعزل والإرجاء تركه، على أن يكون المعنى: ومن طلبت نكاحها من اللاتي تركت فبعيد، لأنّ العزل مشعر بأن تكون المعزولة كانت في زمرة ثم عزلت، وفصلت عنها. والتي رفض نكاحها لا يقال: إنها كانت في زمرة فصلت وعزلت منها. ومَنْ عل كلّ هذا شرطية جوابها فلا جناح عليك.
وروي عن الحسن أنّ معنى الآية: إنّا جعلنا لك أمر الإرجاء والإيواء، وجعلنا لك أيضا أن تطلب نكاح من تشاء عوضا ممن عزلتها بالطلاق أو بالموت. وهو في هذا يحمل الإرجاء على الطلاق، ويكون المعنى: أن اللّه أحلّ لك صنوفا من الأزواج، تطلق من تشاء منهن، وتعتاض عمن عزلت بالطلاق أو بالموت منهن، وعلى هذا {فمن} في قوله: {ممَّنْ عَزَلْتَ} للبدل، مثلها في قوله تعالى: {أَرَضيتُمْ بالْحَياة الدُّنْيا منَ الْآخرَة} أي بدل الآخرة.
{ذلكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في قُلُوبكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَليمًا} اسم الإشارة يرجع إلى ما تضمّنه الكلام السابق من تفويض أمر الإرجاء والإيواء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، أي إنّ تفويضنا الأمر- في إبقاء من تشاء، وترك من تشاء، أو في القسم وتركه إليك- أقرب أن تكون أعينهن قريرة. وذلك كناية عن سرورهن بذلك، فلا تحزن من كان لهن الإرجاء، ويرضين بما تصنع معهن. لأنّه متى علمن أنّ الأمر صار إليك، صار في مرجو المعزولة أن تكون يوما صاحبة فراش، فلا تيأس من قربك، ولا تقنط من رحمة اللّه.
وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في قُلُوبكُمْ} فهو خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولأزواجه رضي اللّه عنهن، وجمع بجمع الذكور للتغليب، وتعقيب الكلام السابق بهذا يراد منه الحثّ على إصلاح ما عساه يكون في القلوب جميعا بالقدر المستطاع، فيخفف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما عساه يكون منه من أثر للميل في معاملة نسائه، ويذهب من النساء ما عساه يكون من أثر للغيرة التي تغلب النساء عادة وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَليمًا يعلم خفيّات الصدور، وما يكون لها من آثار ظاهرة وباطنة. ولا يعجل العقاب قبل الإرشاد والنصح.
قال اللّه تعالى: {لا يَحلُّ لَكَ النّساءُ منْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بهنَّ منْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إلَّا ما مَلَكَتْ يَمينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ رَقيبًا (52)} لا يزال الكلام متصلا في خطاب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في شأن أزواجه، فلا تبحث عن الربط. و{بعد} في قوله: {منْ بَعْدُ} ظرف مبني على الضم لحذف المضاف إليه.
وقد اختلف في تعيين هذا المحذوف على ثلاثة أقوال ترجع في الحقيقة إلى اثنين.
1- روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنّه قال: المراد من {بعد} من عندك من النساء اللواتي اخترنك على الدنيا، ويكون ذلك قصرا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم على أزواجه مجازاة لهنّ، وشكرا على هذا الاختيار، كما قصرهن اللّه عليه إكراما له في قوله: {وَلا أَنْ تَنْكحُوا أَزْواجَهُ منْ بَعْده أَبَدًا}.
2- روي عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه أنه قال: المراد من بعد من أحللنا لك في الآية المتقدمة، وهن الأصناف الأربعة.
3- روي عن مجاهد أن المعنى: لا يحل لك نكاح غير المسلمات.
وهذا الرأي الأخير في الحقيقة يرجع إلى الثاني، لأنّ المروي عن أبيّ يدل عليه، إذ ليس في الأصناف التي أحلّت للنبي غير مسلمة، فيكون ما روي عن مجاهد داخلا في الذي روي عن أبيّ، ويكون المعنى: لا يحل لك من عدا من آتيت أجورهن، وقرابتك المؤمنات. المهاجرات وما ملكت يمينك ومن وهبت نفسها إليك.
ويقول ابن العربي: ويقوى في النفس قول ابن عباس، واللّه أعلم كيف وقع الأمر.
وسيأتي لنا كلام في هذا عند الكلام على آراء العلماء في نسخ الآية.
وقد اختلف العلماء أيضا في قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بهنَّ منْ أَزْواجٍ} فروي عن ابن عباس أنّ المراد: لا يحلّ لك أن تطلّق أحدا من أزواجك لتنكح غيرها.
وروي عن مجاهد أن المعنى: لا يحل لك أن تبدل المسلمة التي عندك بمشركة، ونقل عن ابن زيد أن المعنى: لا تعطي زوجك بدلا من زوج رجل آخر.
أما قول مجاهد فهو مبنيّ على رأيه في صدر الآية، ولو تأملت وجدت صدر الآية مغنيا عنه على حسب تأويله هو، فإنّ صدر الآية معناه عنده: لا يحل لك نكاح غير المسلمات، وذلك يقتضي تحريم العقد عليهن مطلقا، سواء أكان العقد مبتدأ، أم على وجه الإتيان بالمشركة بعد اطراح المسلمة من العصمة، وحينئذ يخلو {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بهنَّ منْ أَزْواجٍ} من الفائدة.
وأما قول ابن زيد فباطل أيضا، فإنّ نكاح الاستبدال الذي يدّعيه حرام على كل الناس، فلا يكون هناك محلّ لتوجيه الخطاب إليه وحده.
وأما إعراب قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} فيرى البعض أنّها في موضع الحال، والمعنى: لا يحل لك أن تتبدل بهن أزواجا على أي حال، حتى حال إعجابك بحسنهن. ويرى البعض أنّ هذه جملة شرطية حذف جوابها، لفهمه من الكلام، والمعنى: ولو أعجبك حسنهنّ لا يحل لك نكاحهن.
{إلَّا ما مَلَكَتْ يَمينُكَ} رأيت في الذي سبق أنّ تقييد حلّ المملوكة بكونها فيئا لا يقصد منه الاحتراز، وقد جاء استثناء المملوكات من المحرمات مطلقا، فهو متفق مع الذي قلنا هناك.
وأما من يرى أنّ القيد هناك للاحتراز، فلعله يحمل المطلق هنا على المقيد هناك، أو لعلّه يقول: إنّ العموم هنا أبطله الخصوص هناك، وما نريد أن نعرض إلى أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم هل كان يحل له الكافرات، أو هن كنّ محرمات عليه؟ فالواقع أنّ النبي لم ينكح كافرة بعد الرسالة، والبحث في حلهن وحرمتهن غير مجد بعد ذلك.
بقي أنّ العلماء اختلفوا في الآية: أبقيت محكمة لم يدخلها النسخ، أم نسخت؟
والذين قالوا بالنسخ اختلفوا في الناسخ: أهو الكتاب أم السنة؟ فذهب جماعة إلى أنّها محكمة، وأنّ ذاك كان تكريما للمختارات، وجزاء على إحسانهن.
ويرى البعض أنها منسوخة، ويروون في ذلك حديثا عن عائشة: «ما مات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا وقد أحلّ اللّه له من شاء من النساء إلا ذات محرم» ويقول ابن العربي في هذا: إنه حديث ضعيف شديد الضعف.
والذين ذهبوا إلى النسخ اختلفوا في الناسخ، فيرى بعضهم أنّ الناسخ هو قوله تعالى: {إنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} إلى آخر الآية، ويقولون: إنّ الترتيب في التلاوة ليس دليل الترتيب في النزول.
وهذا عجيب من قائليه، فإنّ النسخ في الحقيقة يعتمد ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ، وأن يكون بينهما تعارض، وأين هذا مما يقولون؟ هل مجرد احتمال أن تكون الآية التي معنا متقدمة في النزول كاف لإثبات النسخ فيها؟
أما الذين قالوا: إن الآية منسوخة بالسنة، وإن ذلك دليل على جواز نسخ الكتاب بالسنة، فأمرهم أعجب، فإن الذين يجيزون نسخ الكتاب بالسنة لا يقولون إنّه ينسخ بكل سنة، بل كان متواترا معنى، وهو المشهور، فكيف يكون النسخ هنا بقول عائشة، وهي لم ترفعه، وفوق ذلك يقول ابن العربي فيه: إنّه حديث ضعيف.
ثم كيف جاز لهم أن يجعلوا النسخ هنا دليلا على القاعدة الأصولية: نسخ الكتاب بالسنة، والأصول لا تثبت إلا بقاطع كما يقولون. وحديثهم الذي يستدلون به على النسخ قد علمت قيمته.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ رَقيبًا يطلع على ما يكون من كل أحد فيجازيه بحسابه.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظرينَ إناهُ وَلكنْ إذا دُعيتُمْ فَادْخُلُوا فَإذا طَعمْتُمْ فَانْتَشرُوا وَلا مُسْتَأْنسينَ لحَديثٍ إنَّ ذلكُمْ كانَ يُؤْذي النَّبيَّ فَيَسْتَحْيي منْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيي منَ الْحَقّ وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ منْ وَراء حجابٍ ذلكُمْ أَطْهَرُ لقُلُوبكُمْ وَقُلُوبهنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّه وَلا أَنْ تَنْكحُوا أَزْواجَهُ منْ بَعْده أَبَدًا إنَّ ذلكُمْ كانَ عنْدَ اللَّه عَظيمًا (53)} روي في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة سنذكرها، ونبيّن الصحيح منها بعد أن نقول لك: إنّ الكلام هنا بيان لما يكون عليه حال المؤمنين مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في البيت، وذلك ينتظم أحوالا كثيرة بينت الآية الكريمة أحكامها: منها لزوم عدم الدخول إلا بعد صدور الإذن، وهذا يكون بعد الاستئذان. ومنها أن الدخول إذا كان لطعام فيلزم أن يكون المجيء إليه في إبانه لا قبله. وأن ينتشروا على فور الطعام، ولا يمكثوا سامرين.